في 18 نيسان/ أبريل 2025، استُشهد الأسير المحرر نايف عبد اللطيف نصّار. طار جسده إلى الشّارع بعد أن قصفت طائرات الاحتلال الطابق الخامس من منزل عائلته بحي الزيتون شرق غزة. لم يكن وحده، فقد أُبيدت عائلته كلها معه: والده عبد اللطيف، وشقيقاته الأربع؛ أماني، روان، حلا، وأسماء، وابنتها جنان التي كانت فقدت والدها وشقيقتها سيلين في قصف قبل 8 أشهر.
صمد نايف، ابن الثالثة والعشرين، تحت وابل القصف طيلة الحرب، حتّى حوصر في منزله الذي حوّله القناصة الإسرائيليون إلى ثكنة. أُصيب في قدمه، واعتُقل بعدها، ليقضي 23 يوماً في سجن يتجدد فيه الموت كل ساعة تحت التعذيب والتجويع. عاش وحيداً جنوب قطاع غزة، يجُرّ إصابته، وذاكرته بين النزوح والمعاناة.
في 11 شباط/ فبراير 2025، أجرينا مقابلة مع نايف نصّار. تحدّث خلالها عمّا لاقاه في السجن، منذ اعتقاله في 5 كانون الأول/ ديسمبر 2023 حتى تحرُره في 28 من الشهر نفسه. سرد شهادته وكأنّه يعرف أنّ كلماته ستكون الأخيرة!
72 ساعة.. محاصر، مصاب، ثم معتقل
في 3 كانون الأول/ ديسمبر 2023، حوصر نايف في شقّته برفقة شقيقته أماني التي كانت تضمّد جراح ابن خالها المصاب. لم يكن لديهم سوى تمرة وقطرات ماء، بينما القناصون يطلقون النار باتجاههم. أصيب نايف في قدمه، وبدأ ينزف بشدّة. استحال لون وجهه إلى رماد الخوف، بينما كان يتمتم بآية "الكرسي".
اقرؤوا المزيد:مقاومة لا تراها الطائرات
يستعيد نايف تلك اللحظات: "امتلأت الشقة بالجنود والكلاب الشرسة، أجبرونا على النزول، وقدمي لا تقوى على الحركة، دفعني جندي وضربني على درجات السلم".

فصل الجنود الرجال عن النّساء، لطمه أحدهم، وانتزع هاتفه، وأبقاه بملابسه الداخلية، شُدّت يداه بقسوة إلى الوراء، ثم قُيّدتا بثلاثة مرابط بلاستيكية، وعُصبت عيناه برباط برتقالي، وأُجبر على الجثو أرضاً، ورأسه محنيٌّ إلى الأسفل.
اقتاده جندي آخر، فرّق بين قدميه، وانهال على أعضائه الحسّاسة ببسطار معدنيّ، صرخ نايف من الألم وأغمي عليه، تجمّع الجنود حول جسده المنهك، وبدؤوا ضربه بعنف لإعادته إلى وعيه.
أراد أن يمُد قدمه المجروحة فحسب!
في شهادة نشرتها هيئة شؤون الأسرى، أكدت أن معظم معتقلي قطاع غزة تعرّضوا للإغماء أكثر من مرّة خلال جلسات التعذيب، وتحدثت عمّا بات يُعرف بـ"حفلات التعذيب"، حيث يُجمع الأسرى في الساحات، ليمارس السّجانون طقوسهم السادية.
في اليوم التالي، لم يحتمل نايف برودة الطقس ولا الشظايا العالقة في جسده، ولا الذباب الذي التمّ على قدمه المصابة، صرخ: "رجلي مصابة... بدي أفردها".
يستعيد تلك اللحظة قائلاً: "فَرَدَ الجندي ساقي، ثم ضربها ببسطاره الحديدي، ووقف عليها ذهاباً وإياباً، قبل أن ينهال عليّ عشرات الجنود، أصابت الضربات صدري، وكنت أكتم ألمي، بينما أنين المعتقلين من حولي يُمزّق القلب".
اقرؤوا المزيد: أحمد علي وقتال حتى الرمق الأخير
تلذذ الجنود بتعذيبه، دفعوه من علوّ، وارتطم جسده بالحجارة والركام، غاب عن الوعي، انهال الجنود على رأسه وقدميه، أطفأ أحدهم عشر سجائر في كتفه، وسخّن سيخاً حديدياً، وألصقه بكتفه الآخر، ظلّ يردّد في سرّه آيات يُطمئن بها روحه وسط الجحيم.
وضعيّة مؤلمة ومرارة لا تُحتمل
لثلاثة أيام، ظل نايف ومعتقلون آخرون تحت التعذيب، من دون ماء ولا طعام، لم يكن أمامه ما يروي عطشه سوى بوله، يقول: "رغم صعوبة الخيار، ارتشفته لأظل حياً".
تسببت المرابط البلاستيكية في تورّم يديه وشلّ حركته، صرخ مراراً، فقوبل بمزيد من الضرب. لاحقاً، فكّ الضابط الإسرائيلي المرابِط واستبدلها بواحد، إلى حين وصول الآليّات تمهيداً لنقلهم.
صعدوا سُلّماً حديدياً، ثم طُرحوا بعنف داخل صندوق معدني، هُناك استطاع أن يُحرر يده، وينزع العصبة عن عينيه، ليجد نساءً وأطفالاً حوله، لم يقوَ حتى على السؤال عن شقيقته أماني.
الأسبوع الأول: تكبير عند استشهاد أسير
غادرت الشاحنة قطاع غزة، وما إن توقفت حتى بدأ الجنود رشّ الماء البارد على أجساد الأسرى شبه العارية، أجبرهم الجنود على المشي حفاة فوق الحجارة الباردة حتى وصلوا إلى المعسكر.
دخل نايف إلى معتقل محاط بالأسلاك الشائكة، يمتد على مساحة 500 متر، أرضه إسفلتية وسقفه من "الزينكو"، نام على فرشة رقيقة، وبطانية لا تقي البرد، طعام لا يسد الجوع، وحمّام لا يُتاح لساعات، كانت قدمه المصابة تنزف وتتقرّح.
اقرؤوا المزيد: هكذا نجونا من مجازر حي الزيتون
قضى أيامًا طويلة معصوب العينين، مكبّل اليدين، جالسًا بوضعية مؤلمة لا يُسمح له بتغييرها، وممنوعًا من الماء والحمّام.
كان واحداً من 9900 أسير معروفين بالاسم، موزّعين على 27 سجناً ومركز تحقيق، بينما أعداد كبيرة من أسرى غزة ما تزال هوياتهم مجهولة، ويقبعون في ظروف "الإخفاء القسري".
عناق في الزنزانة.. دمعةٌ في الجحيم!
نُقل نايف إلى معتقل آخر، هناك، سمع صوت صديقه مصعب أبو عجوة، طلب من "الشاويش" (الأسير الذي يتمتع ببعض الامتيازات ويتحدث العبريّة) أن ينقله إليه، التقيَا، وبكيَا بصمت، خشية أن يسمعهما السجّان فيعاقبهما.
في اليوم التالي، استشهد أحد الأسرى، كبّر المعتقلون غضباً، فاقتحم السجانون الزنزانة وسحبوا الجثمان، يعلّق نايف: "لم أخف من الموت، بل على مصير أختي أماني.. أين هي؟ ماذا يحصل معها؟".
جراح مفتوحة.. وعينان معصوبتان
في القفص، اختلطت روائح البول واستفراغ الأسرى المرضى، برائحة قدم نايف المتعفّنة، منحه صديقه مصعب بطانيّته وأكياس الخبز ليلفّ بها قدمه ويساعده على مدّها، رآه أحد الضباط، فشبحه على الأسلاك لساعات، والدم يقطر من قدمه ويديه.
في أثناء التّحقيق، فكّ الجنود العصبة عن عينيه، وقف أمام ضابط عدّد له أسماء أفراد عائلته، وهدده بالتعفّن في السّجن، خرج من الغرفة والحُمّى تلتهم جسده، شعر بأنه سيموت: بلا عائلة، وبمصير مجهول.

نادوا باسم نايف مع تسعة أسرى آخرين للإفراج، بشّره مصعب: "رح تطلع!"، لكنّه لم يُصدِّق، تعانقا باكيَين. قال نايف: "كيف بدي أرجع بدونك يا مصعب؟ بدنا نروِّح سوا يا صاحبي".
بعد 23 يومًا من التعذيب والتجويع والإذلال، خرج نايف فاقدًا 15 كيلوغرامًا من وزنه، يستند إلى قدم واحدة، كحال كثير من الأسرى.
رسالة الشّهيد الأسير
في مستشفى "أطباء بلا حدود" برفح، انتهت كوابيس الأسر بالنسبة إلى نايف بمكالمة شقيقته في شمال غزة، وبدأت كوابيس جديدة. كانت قدمه على وشك البتر، خضع لعملية جراحيّة بتخديرٍ موضعيّ، رأى خلالها الطبيب نضال عابد وهو يخترق عظمه ويُخرج كرات متكلّسة، بعد عدة محاولات، تفجّر الدّم أخيراً.
أخبره الطبيب: "لو بقيت في الأسر 24 ساعة إضافية، لفقدت قدمك"، نجا نايف، لكن آلافاً غيره لم ينجوا، لا بأجسادهم ولا بأرواحهم.
استُشهد نايف وفي جسده شظايا، وعلى جلده ندوب لا تندمل، ترك وصيّة حملت وجعه وصوته: "انظروا لحال الأسرى، هم ليسوا أرقاماً، لديهم حياة، وعائلات، وأحلام، اكتبوا عنهم، انشروا حكاياتهم، وكونوا أصواتهم خلف الزنازين".
حتى 15 أيار/ مايو 2025، بلغ عدد شهداء الحركة الأسيرة 306 منذ عام 1967، بينهم 69 شهيداً ارتقوا خلال حرب الإبادة، منهم 44 من غزة، ولا تزال هويات معظم شهداء معتقلي غزة مجهولة، وسط استمرار الإخفاء القسري في معسكرات جيش الاحتلال.