14 مايو 2025

القرية المهجّرة في الليل 

القرية المهجّرة في الليل 

لماذا تركت الكلب وحيداً؟ 

كانت أول مرة سمعتُ فيها عن قرية جمزو، من صيّادٍ، قص عليّ حكاية عن أبيه، وظلت الحكاية عالقة في ذهني، ولم أكترث للقرية وموقعها. لاحقاً حين عرفتُ أن جمزو هي قرية مهجّرة في قضاء الرملة ذُهلت والله، فما الذي يدفع بصيادين من قرية بعيدة مثل كفركنا في الجليل لقطع كل هذه المسافة ليلاً من قريتهم إلى الرملة جنوباً من أجل صيد حيوانٍ مثل النيص؟ 

صيد النيص تقليدٌ عريق لرياضةٍ شعبيةٍ تُمارس ليلاً من عالم صيد البرّ عن طريق الكلاب المدربة، ما تزال تمارس في الجليل إلى يومنا. على أي حال، حكى لي ذلك الصيّاد واسمه عاطف عن أبيه "أبو عاطف" الذي كان صيّاداً أيضاً في شبابه، حيث يورّث الصيادون أبناءهم رياضة الصيّد، بأنه ذات ليلة وبينما كان يهُم الابن وبعض رفاقه للصيّد في غابةٍ مجاورة لقريتهم، فوجئوا بأبو عاطف يناديهم همساً بكلماتٍ بالكاد كانت مسموعة من تحت لثامه "خذوني على جِمزو.. بدي أشوف جِمزو وأسمع نبحة الكلب فيها بالليل". ومع أن أبو عاطف كان قد شاخ وبالكاد يقوى على المشي، لبّوا رغبته وأخذوه فعلاً، فهو الحنين للعصا والحذاء القديم كما يقول عاطف عن أبيه. 

كان ذلك في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، حين وصلوا جِمزو بعد مسير أكثر من ساعتين ليلاً في سيارة مملوءة بالصيادين وصندوقها مكتظ بكلابِ الصيد. اتفقوا على أن يظل أحدهم مع الحاج أبو عاطف في السيارة، بينما الآخرون أنزلوا الكلاب وتوغلوا معها في عتم ليل بساتين جمزو المنسية، وعِصيّهم مردودة إلى أكتافهم. وما هي إلا دقائق معدودة، حتى علا للكلابِ نباحٌ قادماً من بين الصبّار، عندها همَّ أبو عاطف مترجلاً من السيارة وتاركاً سيجارته فيها كي لا تفضح زهرة السيجارة وجودهم، ثم رفع يده اليمنى ملوحاً على وقع نباح الكلاب وقال "الله على جِمزو.. وكلاب ليل جِمزو..". 

اقرؤوا المزيد: النكبة في المعجم الاجتماعي

كان النباح المُدوي على حيوانٍ اسمه "الغريري" في تلك الليلة، يُعيدُ في ذاكرة أبو عاطف نباح كلاب القرية نفسها قبل أربعين عاما، والتي ظلّت وفية لبيوت أصحابها المهجّرين منها. لم تترك الكلاب القرية مع أصحابها بعد تهجيرهم منها صيف عام النكبة، كانت تلوذ الكلاب بالبياراتِ المحيطة بجِمزو نهاراً، وفي الليل تعود إلى بيوت القرية الخاوية على عروشها، ما كان يدفعها إلى نباحٍ لا ينقطع طوال الليل. 

صورة ألتقطت في 8 شباط/ فبراير 2014 لما تبقى من مقبرة قرية جمزو المهجرة. (تصوير: سهيل مخول/ موقع فلسطين في الذاكرة)

ماذا حل بكلاب بيوت فلّاحي القرى المهجّرة؟ هذا سؤالٌ لم يخطر إلا ببال الصيّادين، حيث يقدّر الصيّاد كلب صيده على نحوٍ محموم. وفعلاً قلما تخبرنا رواية الاقتلاع والرحيل من القرى عام 1948، وحتى الصور الأرشيفية المتاحة، عن مصير حيوانات وقطعان بيوت الفلاحين حين طُردوا منها. لدى الصيّادين رواية عنها وتحديداً الكلاب منها، تقول إن هذه الأخيرة لم تغادر القرى مع أصحابها، بينما القطعان ساق أصحابها بعضا منها أمامهم، وبقي بعضٌ آخر وقد سلبه الصهاينة في حينه. ومن هنا يستدرك بعض الصيادين من وحي عتم ليل القرية المهجّرة على قول الشاعر درويش بقولهم "لماذا تركت الكلب وحيداً". 

الوجه الليلي 

للقرية المهجّرة في أدبيات ما يعرف بالخط الأخضر – الأراضي المحتلة عام 1948 – عالمٌ مرسوم في مخيّلة فلسطينيي الداخل على شكل معالم متصلة ببقايا آثار ناجية وأنقاض من حجارة مركومة يحرسها سرب من شجر الزيتون أو رفّ من الصبّار وعين ماء جفت بعد أن ساطتها الأتربة والرمال. غير أن لهذا العالم وجهين في حقيقته، لا وجها واحدا: نهاري وليّلي، الأول هو ذلك الذي يدلنا عليه ويأخذنا إليه وضح نهار الأول من أيار في كل عام في مسير إلى واحدة من قرى البلاد المهجّرة ضمن زيارة جماعية في مسيرة سنوية تُعرف بمسيرة العودة. بينما الثاني، وجه ليلي للقرية ومعالمها التي يبتلعها ظلام ليل البلاد الطويل، والذي شرطهُ غياب القمر، لأن ليل الصيّادين تقتضي أدبياته أن يكون ليلاً معتماً. 

يُجيدُ الصيّادون لفظ اسم القرية المهجّرة كما لو أنهم ولدوا فيها، ويعرفون كل ما تبقى فيها من معالم تدل عليها وبالاسم، كما يعرفون ما حلّ على أنقاضها، كيبوتس أو مستوطنة أو معسكراً للجيش. "صبرات دور العرب" تسمية ما زالت حاضرة في خرائط الصيّادين، متصلة بالصبّار اليتيم الباقي على إحدى تلال الغابة التي كانت تنزل فيها قبائل عرب الصبيح العربية قبل تهجيرها عام النكبة في قضاء الناصرة شرقي قريتي عين ماهل. والـ"دُور" صيغة لجمع "دار" المتصلة ببيوت البدو المبنية من الحجر، والمركومة إلى يومنا في مواقع مختلفة من الغابة. 

صورة من داخل غابة عرب الصبيح، نُشرت في 25 تموز/ يوليو 2007. (المصدر: موقع فلسطين في الذاكرة)

كانت غابة الصبيح ودُور العرب فيها، قد تحولت إلى مراعٍ لبقر كيبوتس "بيت كيشيت" منذ خمسينيات القرن الماضي، بينما الكيبوتس أُقيم على بعض أراضي الصبيح في الناحية الشرقية من الغابة منذ ما قبل النكبة في الأربعينيات. في جولاتنا النهارية للغابة، التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى ما يشبه حديقة عامة، كانت تأخذنا الغابة بامتدادها المشجّر بالمَل والبلوط، وبقر الكيبوتس سارح فيها، بينما جبل الطور (طابور) منتصب عند طرفها الجنوبي، في حين يتستر الصنوبر الدخيل على جريمة طمس معالم دور عرب الصبيح. ووحده الصبّار اليتيم عند تلٍ يدعى "تل الظهرات" وبعض الزيتون المعمّر ما كان يُحيلنا إلى عروبة المكان نهارا. 

بينما الحال في الليلِ غير، وقد تسنى لنا غير مرة دخول الغابة ليلا برفقة من ورثوا عن آبائهم رياضة صيد النيص، وبصحبة كلابٍ مدربة تجيدُ اقتفاء أثره في ليل الغابة البارد. يتستر الليل بكُحل عَتمه على كل عالم الغابة ومعالمها، الباقي منها والمطموس، إلا بعض أنقاض بيوتٍ أو سلاسل حجرية مصفوفة ينبعث بياض لون حجارتها من قلب سواد الليل. ولأن ليل الصيد بارد في موسمهِ ما بين شهرَي تشرين الأول وكانون الثاني، فإن غياب حَسيس حشرات البر ليلاً، يمنح هذا الأخير صمتاً أصمّ يعطي لعتم الغابة المُظلم هيبة ورهبة معاً فيها. 

ليل دور العرب 

ذات ليلة، ما إن وصلنا بطن الغابة، وسرنا على كتفِ وادٍ اسمه "واد الغار"، توقف مصطفى فجأة، كان مصطفى أكبرنا سناً، وتوقفت بدوري معه، ثم هَمَّ رافعا يديه إلى صدره وبدأ يتلو الفاتحة، وكذلك فعلت. ثم سألت: مقبرة؟ قال لي: لا، إنها دور "مساكن" الشديدي، عشيرة من قبيلة الصبيح كانت تنزل هذا المكان. فقلت: ولم الفاتحة؟ التفت عليّ وقال: كل قرية مهجرة هي مقبرة في الليل.. وفعلاً تُشعرك أنقاض البيوت في الليل كما لو أن أنفاس أهلها ما تزال فيها، أو كما لو أنهم تركوها منذ أيام وليس قبل سبعين عاماً. "أرواح المهجّرين تعود إلى بيوتها المُهجّرة ليلا" هذا ما يظنه الصيادون من وحي غرائب ليالي صيدهم في بر القرى المهجّرة.

في تلك الغابة، وبينما كانت عامرة بأهلها حتى عام 48، دارت أكبر معركة عرفها كل قضاء الناصرة عام النكبة. هاجم الصهاينة وقتها عشيرة "الظَهرات" الصبيحية التي كانت تُقيم عند أعلى تلٍ في الناحية الشمالية من الغابة، أفضت المعركة إلى مذبحة وتهجير معظم عشائر الصبيح وقتها، كما تمخضت عنها سيرة أكبر مُطارد ظلَّ مطلوباً للصهاينة، ارتبط اسمه بالغابة هو "علي النمر العُقلة" من نفس عشيرة الظهرات. كانت من بين ضحايا المذبحة زوجة علي النمر نفسه وابنتاه، ومعهن نساء وأطفال من عائلته، ظلَّ علي النمر يتسلل إلى الغابة بعد طرد عشيرته منها إلى سوريا حتى مطلع السبعينيات إلى أن قضى شهيدا ذات ليلة عند جبال عيلبون في الجليل.

اقرؤوا المزيد:  دبيب الحوافر.. خيلٌ في ذاكرة الثورة

في ليلةٍ أخرى، وبينما كنّا نحاول اجتياز شريطٍ من السلك الشائك عند نفس التل، تل عشيرة الظهرات، توقف أبو عمر فجأة، ورفع كف يده اليسرى ثم أشار بسبابته إلى كعب التل عند الصبّار، ثم قال: "عيلة علي النمر مدفونين هون، بالمغارة جوّا".. سَرت في بدني قشعريرة، وتذكرت حكاية ذبحهم عام النكبة. لم نقترب من المغارة ليلتها، غير أن أبا عمر كان قد دخلها من قبل، وحدثني عن رفات ستة شهداء فيها، مُغطين بشرشفٍ تيبّس فوق عظامهم، والغريب بحسب ما قاله لي أنهم مدفونون بنفس الطريقة التي تعودوا النوم فيها، مُصطفين إلى جانب بعضهم تحت شرشفٍ واحدٍ. ويقسم صاحبنا، أنه وفي ليلة من ليالي الصيد، كانت الكلاب قد طاردت نيصاً لاذ داخل تلك المغارة، وصلت الكلاب بابها وقفلت عائدة ولم تدخلها، كما لو أن طرائد البر "تستجير بشهداء القرى المهجّرة".

على نفس السيرة، ظلّت تسترخي في ذاكرة صيّادي الغابة من أبناء القرى المحيطة مثل عين ماهل وكفركنا، حكاية أخرى عن نيصٍ تعودت كلاب صيدهم مطاردته، وتمكن من الإفلات منها مراراً. أطلق عليه الصيّادون لقب "نيص الأوضة" – الأوضة كلمة تركية تعني الغرفة أو الحجرة – وذلك نسبة إلى أوضة مبنية من الحجر الصلد ما تزال قائمة إلى يومنا على سفح إحدى تلال غابة الصبيح في الناحية الشمالية – الغربية منها. بحسب ما رووا أن ذلك النيص كان كلما اقتفت أثره الكلاب وتعقبته بنباحها يفرُ منها نزولاً باتجاه الأوضة، وعندها يختفي النيص تماماً كما لو أن الليل قد ابتلعه. 

ظلَّ مصطفى يتذكر نباح كلاب الصيد يأتي مكبوتاً من داخل الأوضة، حين كانت تدخلها بحثا عن النيص. كما يتذكر حركة دخول الكلاب وخروجها من الأوضة مرات بلا جدوى، إلى أن صار نيص الأوضة في مخيلة الصيّادين أشبه بلغزٍ كلما طاردته الكلاب واختفى عندها، وما كان يُثير مصطفى ليس اختفاء ذلك الحيوان فحسب، إنما إضاعة الكلاب لأثره كذلك. لاحقاً عرفت أن تلك الغرفة الحجرية كان الأتراك هم من بنوها في الحرب العالمية الأولى مخزناً عسكرياً، وورث بدو عرب الصبيح الأوضة بعد انكسار تركيا. 

للديار حُرمة

يتفادى الصيّادون في دُور العرب ليلاً، ثلاثة مواقع فيها: المقبرة والآبار وعيون الماء، ولا يمكن لزائر الغابة في وضح نهارها اليوم أن يستدلّ على تلك المواقع فيها، فما بالك في الليل. غير أن الصيّادين يعرفونها، ومنهم كنّا قد تعرفنا إليها وفي الليل. حين يقترب الصيّادون من عين منصور، كانوا يبتعدوا عن منبعها، لأن عيون الماء قد تتحول إلى كمائن في الليل، هكذا يظن الصيّادون. أما المقبرة، فكانت مشتركة لكل عشائر الصبيح في غابتهم، تقع خلف تل الظَهرات إلى الشمال منه، ولقد ساطت الأتربة والعشب اليابس أحجار القبور فيها حتى ابتلعت شواهدها، فيتفادى الصيّادون دخولها كي لا تجوس أقدامهم حُرمة القبور التي ضاعت معالمها.

اقرؤوا المزيد: "فلسطين في الذاكرة".. نافذتنا على جيل النكبة الأول

بينما آبار دُور العرب، من بير بييم في أقصى شمال الغابة عند قرية الشجرة المهجّرة حتى بير مراح مختار في أقصى جنوبها قرب قرية عرب الشبلي الحالية، فيحفظ الصيّادون خريطة مواقعها ليلاً مُذكَرين ومُنبّهين بعضهم إليها تفاديا من السقوط فيها.

تُعيد حركة الصيّادين في غابة الصبيح رسم خريطة دُور العرب المهجرة فيها، والتي ما كان لنا التعرف إليها إلا ليلا. خريطة ترسمها ذاكرة ظلت قادرة على تحسس المكان والإحساس به في ليلٍ لا يتيح عتمهُ لحاسة البصر أن تبصرهُ، بقدر ما يمنح حاسة السمع الإنصات إلى صرير أنفاس أهله فيه. القرية المهجّرة أصدق معنا ومع نفسها في الليل من النهار، لأن "أرواح المُهجّرين تعود إلى بيوتها المهجّرة ليلاً" كما قال صيّاد.